Friday, June 22, 2007

التناقضات الهدامة ، بقلم : د. حسن حنفى ، جريدة العربى الناصرى 10 يونيو 2007

"المقال"
ما زال الغرب هو الذى يُنتج المفاهيم ، ونحن نشرحها ، ما زال الغرب يزهو علينا بأنه وحده القادر على التنظير
المباشر للواقع وإنتاج المفاهيم والنظريات فى حين أننا مازلنا نعتمد على النصوص القديمة كحجة ، نفسّر بها
أوضاع العالم ، وتحدّد لنا موجّهات السلوك ، ما زلنا نعتمد على الإيديولوجيات الجاهزة : الإسلامية ، أو القومية
أو الليبرالية ، أو الماركسية ، لتفسّر لنا العالم ، وتحدّد لنا اتجاهات التحرّك فيه .فقد أنتجت أمريكا مفهوم " الفوضى
الخلاقة" ، وتعنى بها تفجير التناقضات فى الوطن العربى والعالم الإسلامى بحيث يتفتّت الكل ، ويصبح كل جزء
نقيض كل جزء ، كما هو الحال فى القنابل العنقودية ، فتتناثر الأجزاء، وتتباعد بعد أن يصطدم بعضها بالبعض
الآخر فى اتجاهات عشوائية لا يمكن ضبطها مهما تبلغ ضربات العصى للاعب ماهر. ويتحوّل الجسد العربى
الإسلامى إلى شظايا يصعب جمعها من جديد فى جسد واحد بعد أن تبتلع القوى النشطة فى المنطقة مثل إيران
أو تركيا أو إسرائيل بعضا منها إلى غير رجعة ، كما ابتلعت القوى الكبرى ممتلكات الدولة العثمانية بعد هزيمتها
فى الحرب العالمية الأولى ، وابتلعت روسيا القيصرية فى القرن التاسع عشر ، ثم روسيا الاشتراكية للجمهوريات
الإسلامية فى آواسط آسيا بعد ثورة أكتوبر 1917 . وما زالت ظواهر التفتيت والتقسيم للإمبراطورية العثمانية
قائمة ، وظن العرب أن القومية العربية هى البديل عن دولة الخلافة تحميهم من التقسيم ، فاحتلت بلاد العرب
واستبدل العرب بالسيد الإسلامى ، السيد الغربى ، ولم تستطع الجامعة العربية إعادة جمع الأقسام إلاّ على مستوى
النظم السياسية المتناقضة فيما بينها ، ولم تستطع القومية العربية كحركة تحرّر وطنى إلاّ تحرير الأوطان بمساعدة
الشقيقة الكبرى . وبعد هزيمة يونيو - حزيران 1967 ، لم تستطع القومية العربية حماية الشقيقة الكبرى ولا فلسطين
ولا سوريا ولا لبنان ، واحتلت فلسطين كلها ، نصفها فى العصر الليبرالى فى 1948 ، والنصف الآخر فى المد
القومى فى 1967 ، ثم وقعت حرب الخليج الأولى ، وظهر التناقض المفتعل بين القومية العربية التى احتجت
بها العراق والثورة الإسلامية فى إيران . ثم وقعت حرب الخليج الثانية ، وتحوّلت القومية العربية من مُدافع
عن الأوطان إلى محتل لها . وأصبح العدو للكويت هو العراق واقعا ، وليست إيران وهما ، أو إسرائيل أو الولايات
المتحدة فعلا. بدأت التناقضات الهدّامة بالتناقض بين المقاومة الفلسطينية والنظم السياسية العربية ، كما حدث
فى أيلول الأسود فى الأردن عام 1970 ، ظهر التناقض بين المقاومة كحركة شعبية والنظام السياسى كدولة
مستقلّة تفرض سيادتها على مجموع أراضيها ، وهو التناقض الذى ضحّى به " عبد الناصر" بحياته من أجل
حله والتخلص منه فى نفس الشهر ، عندما أراق العربى ، دم العربى . ثم وقع تناقض آخر بعد إنشاء السلطة
الفلسطينية ، إثر اتفاق مدريد و أوسلو ، بين فصائل المقاومة والسلطة الجديدة ، بين الثورة والدولة ، وكلاهما
شرعى ، ثم وقع التناقض بين أهم فصيلين للمقاومة ، فتح وحماس، أراق فيها الفلسطينى دم الفلسطينى ،
وما زال
الوضع متفجّرا ، وتسيل الدماء بعد أن تفشل محاولات إيقاف النزيف فى مكة والقاهرة . وحاول البعض إيقاع
التناقض بين حزب الله والدولة اللبنانية فى حرب تموز - يوليو العام الماضى . فقد دُمّرت لبنان بسبب خروج
المقاومة على شرعية الدولة ، حربها وسلامها ومبادرتها واستقلالها ، ولم يشفع لها رصيدها السابق فى تحرير
الجنوب . ثم يقع تناقض ثان الآن بين فتح الإسلام ، والجيش اللبنانى ، الذى ظهر بعد طول صمت . وأراق
العربى دم العربى من أجل استئصال المقاومة بالرغم من أخطاء بعض عناصرها كاحدى مراحل تصفية المقاومة
فى لبنان ، مرة فى الشمال ، ومرة فى الجنوب ، ومرة فى الشرق ، فى البقاع وغلق الحدود مع الشقيقة سوريا
وبصرف النظر عن المقاومة فى لبنان ، يقع تناقض أشمل داخل لبنان بين الاستقلال الوطنى والتبعية للغرب
والولايات المتحدة الأمريكية ، وينزل الفريقان إلى الشارع للاعتصام وللاصطدام . فيسيل الدم اللبنانى بيد اللبنانى
وتُشل الحياة السياسية ، فريق ضد المحكمة الدولية احتراما لسيادة لبنان ، وآخر مع المحكمة الدولية لإدانة سوريا
كمقدمة للهجوم عليها ، وتصفية نظامها الذى ما زال يرفض المخطط الإسرائيلى الأمريكى لتصفية مقاومتة .
فسوريا هى الجسر بين إيران ولبنان ، وما زال التهديد موجّها إلى سوريا حتى يقل تأثير إيران فى الوطن العربى
وإيران مورّد السلاح الرئيسى إلى المقاومة فى جنوب لبنان . ويقع تناقض آخر بين المقاومة الفلسطينية والعراق
عندما أيّدت المقاومة حرب الخليج الثانية والعدوان العراقى على الكويت نظرا لوجود خمسة وثلاثين ألفا من المقاومة
الفلسطينية فى العراق ، بناها العراق، والمقاومة الفلسطينية فى النهاية تُدين بالولاء للقومية العربية بالرغم من
انتماءاتها الإسلامية . تجمع بين الوطنية والقومية والإسلام ، الدوائر الثلاث، ميادين التحرّك للتحرّر الوطنى
العربى . كانت المقاومة الفلسطينية مع الثورة الإسلامية فى إيران فى بدايتها ، وكان من الصعب عليها أن تأخذ
موقفا فى صف هذا الفريق أو ذاك . وبعد مرحلة الرومانسية الأولى فى الثورة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية
عادت الحسابات السياسية التى قد تُخطئ أو تُصيب فى الانحياز إلى أحد طرفى التناقض. وهو اختيار حر . وانعكس
ذلك على الوجود الفلسطينى فى الخليج ، فشعب فلسطين وعمّال فلسطين لابد وأن يُعاقبوا بسبب مواقف المقاومة
الفلسطينية فى حرب الخليج الثانية ، ونشأ تناقض فرعى بين الوجود الفلسطينى والوجود المصرى والوجود السورى
فى تولّى الوظائف فى الخليج . والكل يأكل من خشاش الأرض . وبدأ الترحيل للفلسطينيين إلى الوطن المحتل
أو إلى أوطان بديلة . وظهر التناقض بين ما تبقّى من نظم قومية والوجود الفلسطينى فى ليبيا . فعلى العمّال
الفلسطينيين الرحيل إلى دولة المقاومة التى لم تقم بعد ، وما زالت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع ، وإلى الوهم
منها إلى الحقيقة . و موريتانيا تعترف بإسرائيل ، وتقيم علاقات دبلوماسية معها ، وهى ليست من دول الجوار
بناء على ضغط أمريكية لإيقاع التناقض داخل الشعب الموريتانى بين مقاومة التطبيع ، و أنصاره ، كما وقع
التناقض بين جيش " على ّ بن أبى طالب" بين رفض التحكيم وقبوله . ثم تنفتح مكاتب اتصال أو مكاتب تجارية
فى بعض دول الخليج وفى بعض دول المغرب العربى بحجة التجارة أو عودة اليهود المغاربة إلى أوطانهم .
كما يقع التناقض بين الشقيقة الكبرى - مصر- والفلسطينيين المقيمين حول صعوبات الإقامة والحصول على
تأشيرات الدخول ، وتحديد النشاط السياسى ، أسوة بنشاط المعارضة من المصريين . وتمتد التناقضات الهدامة
خارج نطاق فلسطين ودول الجوار فى تناقضات طائفية ومذهبية وعرقية فى شتى أرجاء الوطن العربى . أكراد ا
وتركمانا وعربا فى العراق ، وبداية التطهير العرقى والترحيل . وعربا وبربرا فى دول المغرب العربى . وسنة
وشيعة فى العراقى وباقى دول الخليج . ومسلمين ومسيحيين فى مصر . ودروزا وأكرادا وعلويين ونصيريين
وسنة فى سوريا . وموارنة وسنة فى لبنان . وشماليين وجنوبيين فى اليمن . زيدية وشوافع وشماليين وجنوبيين
وشرقا وغربا فى السودان حتى يبقى القلب وحيدا بلا أطراف . ونجديين وحجازيين فى المملكة العربية السعودية .
تقليديين ومجددين ، محافظين وليبراليين ، قوميين وإسلاميين وقطريين فى الكويت . وإسلاميين وعلمانيين فى
مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب . وقبائل متناحرة على الجوع والجفاف فى إريتريا والصومال ، والحبشة
لهما بالمرصاد . لا يحمى الأوطان من هذه التناقضات الهدامة إلا " وحدة الأوطان " و " الولاء الوطنى " " فالوطنية هى الحل "
بصرف النظر عن تعدديتها العرقية والطائفية والمذهبية . ولمّا كانت حدود الأوطان مصطنعة من بقايا الاستعمار
القديم ، فإن القومية العربية ، قد تكون هى الحل للمّ شمل الوطن العربى ، ورفع التناقضات الهدامة فيه ، كما كان
الحال فى المد القومى العربى فى الخمسينيات والستينيات ،وكما جسدته الناصرية ، أكبر تجربة قومية فى تاريخ
العرب الحديث قبل الوحدة اليمنية بين شطرى اليمن .وقد يكون التجمّع الثقافى هو الحل ، الثقافة الإسلامية
التى جعلت الوطن العربى بؤرة عالم إسلامى أوسع يُتبرّك به ، ويُسعى إليه لتعلّم اللغة والثقافة والتراث
المشترك . قد تكون التجمعات الإقليمية هى الوسيلة لحماية الوطن من التفتت والتمزّق مثل تجمّع " مصر
وإيران وتركيا " لحماية المنطقة من التجزئة الداخلية والعدوان الخارجى . وتتطلّب هذه البدائل الوحدوية
كلها خيالا سياسيا قادرا على تجاوز الواقعية السياسية المُرّة التى هى أقرب إلى الاستسلام منها إلى المقاومة .
يتطلّب نخبة ثورية جديدة بدلا من النخب الحاكمة التى طال عليه الزمن أو إرادة شعبية قوية تفرض نفسها على
مسار الأحداث " ورحمة ربك وسعت كل شئ" صدق الله العظيم .
"انتهى مقال الدكتور حسن حنفى من جريدة العربى الناصرى "

No comments: