Friday, July 20, 2007

القيمة النضالية لأرنستو تشى جيفارا ، بقلم : د. أحمد حجى ، الطليعة ، أكتوبر ، 1968

فى 8 أكتوبر الحالى ، يمضى عام على استشهاد المناضل " أرنستو تشى جيفارا " ، وفى هذا المقال يعرض
شاب من بلادنا هو الدكتور " أحمد حجى " من سندوب - دقهلية ، لحياة المناضل " جيفارا " ، وللقيم التى
أرساها للمناضلين فى كل مكان .
الطليعة .
" المقال"
مات " جيفارا " ، وانقضى عام كامل على وفاته حتى الآن . ففى 8 أكتوبر سنة 1967 ، حاصر أكثر من 1800 جندى
فى هضاب وجبال وغابات " بوليفيا " الثائر الأرجنتينى الأصل " أرنستو تشى جيفارا " . ضيّقوا عليه الحصار
. أصابوا فخذه برصاصة ، بصق على وجوههم ، قتلوه بوحشية . لكنه ظل يبتسم ، فنكّلوا بجثته ، وقطعوا أصابع
يديه . وطار النبأ فى أنحاء العالم ، لقد سقطت ورقة " جيفارا " من شجرة الحياة . أطلق عليه الكثيرون إنه
أسطورة العصر ، ربما لأنهم لم يعيشوا حياتهم بصدق مثلما عاش " جيفارا " حياته ، ولأنهم لم يكونوا شجعانا
فى خطوات نضالهم مثله . فقد كان صورة نابضة بالبطولة والثورية الأصيلة فى عصرنا ، والتى أجمع عليها
منْ يقف معه ، ومنْ يقف ضده . فالثورى يجب أن يتحلّى بالصفات الثورية عملا لا قولا . فى كل وقت ، وفى
كل حين . لا يتراجع فى وقت الشدة ، فالمواقف البطولية فى حياة المناضل هى تلك التى يتخذها بشجاعة
فى أقسى الظروف والأزمات . وقد كان " جيفارا " ذلك المناضل الثورى والذى قال عنه الفيلسوف الفرنسى
جان بول سارتر :" إنه أكمل بشرى عرفه عصرنا ". لقد كانت الثورة من أجل الإنسان ، هى الشمس الذهبية
التى تضئ الأفق أمام عينيه الذكيتين ، فعرف كيف يكره بشدة ذلك الاستعمار الأمريكى البغيض ، وصوره المتعدّدة ،
وكيف يتألم لأن عالمنا ما زال يضم على أرضه إنسانا يستغل أخيه الإنسان ويمتهن كرامته . ومن أبرز صفات
المناضل فى " جيفارا " ، ذلك الحب العميق والجارف ، فقد أحب أرض الوطن ، حتى أصبحت قطعة من
قلبه ، وفى تلك الأرض ، استنبت " جيفارا " أفكاره ، ومزجها بالماركسية اللينينية ، وأحب الإنسان الذى
يستثمر حريته وإنسانيته ، وارتبطت تلك بحركة التحرّر الوطنية وبعملية البناء الاشتراكى العالمى . وأصبح
المناضل كما قال عنه :" إن الثورى الحقيقى هو ذلك الذى يهتدى بمشاعر قوية من الحب .". وقد كان الحب
الذى بسطه " جيفارا " على حياته الثورية ، هو ، الرابطة القوية بين ما يفعله ، وما يفكّر فيه . وكلما
زاد
الحب فى قلبه ، كلما توهّجت أمامه معالم الثورة ، وصورة الإنسان الاشتراكى الذى يتّسم بتلك الصفات ، فهو - الإنسان الاشتراكى - :
" أول من يعمل ، وآخر من يستريح ، وأول من يصحو ، وآخر من ينام ، وأول من يشبع ، وآخر من يأكل ".
فى سنة 1956 ، وفى المكسيك ثمة شيئا جديدا يغيّر من حياة الطبيب " أرنستو تشى جيفارا" ، فقد التقى
مع قائد ثورة كوبا " فيدل كاسترو " ، سهروا ليلة حتى الصباح يتناقشون بحدّة حول تكنيك الثورة ، ثم التقيا
وتصادقا صداقة قوية ، وأعدا العدة لغزو كوبا من المكسيك . قال له زوجته :" إمّا أن تختارنى ، وأمّا أن
تختار طريق الثورة ". لم يفكّر كثيرا ، فقد كان يعرف أنه لا طريق أمامه غير الثورة من أجل الإنسان . وترك
زوجته . ليُبحر ذات ليلة من ليالى نوفمبر 1956 ، على ظهر اليخت برفقة " كاسترو" و 80 مقاتلا ثوريا
لتحرير كوبا . ولأسباب منها قدم - من قديم - اليخت ، والمخاطر العديدة التى تحيط بالرحلة ، تخلّف الركب
عن الميعاد المحدّد لوصوله ، فتمكنت قوات " باتستا" من شنّ هجوم عنيف على الثوار . فرّ البعض بين المستنقعات
والغابات وحقول القصب . بينما طائرات العدو تلاحقهم بوابل من النيران المسعورة ، ولنا أن نتصور عمق
المأساة وقسوتها ، فرغم أن الموت كان يطل بعيون شرسة باحثا عن الثوار ، إلاّ أن هوْل المفاجأة كان يجعل
"جيفارا " يضحك فى أسى لرؤيته أحد الرفاق ضخم الجثة ، وهو يحاول أن يختبئ خلف أعواد القصب ، حتى
لا تصيبه حدى قذائف العدو ، أو لأن رفيقا يطلب من الرفاق الصمت ، بينما هو يزعق بصوت عال . لقد أسفرت
المعركة الدامية عن مقتل 70 رجلا من الثوار ولم يبق على قيد الحياة إلاّ 12 رجلا جرحى ومنهكى القوى من
بينهم " كاسترو " و " جيفارا " يضمدون جراحهم ، ويتعذبون ألما على الهزيمة ، ورغم ذلك صاح " كاسترو "
للرفاق قائلا :" إن أيام الديكتاتورية قد حان مغيبها ". تعجّب الثوار ، فما زالوا يعانون آثار الهزيمة ، وكان عليهم
أن يعيشوا حياتهم بين الأدغال الكثيفة ومرتفعات جبال " السييرا مايسترا" ، يعانون من آلام الجوع والبرد .
حتى المياه كانوا يقتسمونها بغطاء عدسة منظار ميكروسكوبى . ورغم ذلك كانت البداية من جديد لغزو
كوبا وتطويقها زحفا من الأحراش والريف إلى العاصمة " هافانا " . وكانت بداية جديدة فى نضال " جيفارا "
فكان عليه أن يُعدّ الأعضاء الجدد ويمرّسهم على النضال ، ويعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة وأصول السياسة
ويوضّح لهم مبادئ الثورة وأهدافها . ولذلك فقد يقيم المدارس والمستشفيات والمصانع الصغيرة لصنع
الأحذية والملابس فى الغابات . وبجانب هذا العمل النضالى ، لم ينس أنه طبيب وأن عليه أن يقوم بعلاج
النساء والأطفال والفلاحين ، ويضع البلسم الشافى لكل جرح .
فيلسوف الحرب الشعبية
انطلاقا من أن الشعب المستعبد ، هو القادر وحده على تدمير جلاديه ، وانطلاقا من مشاكل الجماهير ، وضع
" جيفارا " فلسفته فى " الحرب الشعبية " . باعتبار أن "حرب الشعب " لا يمكن أن تقهرها أحدث الأسلحة .
حيث إن لكل فرد موقعا من النضال المشترك ، وحيث إن الهدف واحد ، وهو حرية الإنسان والأرض . وقد
ربط " جيفارا " حرب الشعب ونضاله ضد الديكتاتور " باتيستا" ، و أسياده الأمريكان ، بقضية الإصلاح
الزراعى . فمن أجل تحرير الأرض من سيطرة كبار الملاّك ، فعلى الفلاحين الفقراء أن يقاوموا الاستعمار
الأمريكى بكل صلابة . حقيقة أخرى ، هى أن الشعب المستعبد ، هو شعب فقير . ولذلك ، فعلى الثوار أن يسلّحوا
أنفسهم من أسلحة العدو . ومن أجل أن تحقّق " حرب الشعب " انتصاراتها ، يجب أن تكون هناك طاعة ،
ونظام غاية فى الدقة ، حتى ولو أدى ذلك إلى الموت . وبصدد ذلك يحكى " جيفارا " أنه أنّب أحد الجنود
الثوريين ، حينما وجده نائما وبلا سلاح ، فقال له :" عليك أن تجد بندقية بالذهاب أعزلا إلى خط النار إذا كنت
أهلا لذلك ". وفى مستشفى " سانت كلارا " كان " جيفارا " يتفقّد الجرحى ، فوجد جريحا فى حالة خطرة يشير
إليه بيده ، التفت " جيفارا " ، قال الجريح :" هل تذكر أيها الرائد ، لقد أرسلتنى للبحث عن سلاح ، وها أنا ذا
قد حصلت عليه ". ويقول " جيفارا " أيضا إن " الحرب الشعبية" ليست التخريب ، بل هى بثّ الرعب فى
قلب عدو أكثر عددا وعدّة . كما أن " الحرب الشعبية " لا تعتمد على القضاء على الجيوش المعادية ، بل على
تحطيم أهدافها العسكرية حتى تنهار الحكومة المعادية ويسقط المغامرون والاستعماريون . وعلى الجانب
الآخر ، فإن رجل الحرب الشعبية إنسان للغاية ، فقد كان " جيفارا " يقوم بنفسه لعلاج الجرحى من الأعداء ، ويعلّمهم
كيف أن حكامهم يعادون الشعب ، ويتعاونون مع الاستعمار . حتى عرف الأعداء ذلك عن " جيفارا " ، فإذا
وقع جندى من جنود الأعداء اسيرا ، كان يقول لجندى الثوار الذى يقتاده :" لا تقتلنى ، لقد قال جيفارا إنه
يجب عدم قتل الأسرى ".
الثورة تنتصر ، مرحبا أيها النضال
ازداد الغليان . " جيفارا " ورجاله يُصدرون جريدة " الكوبى الحر" . ويعلقونها على أشجار الغابات حتى يقرأها
كل مواطن كوبى . بدأ " كاسترو " يذيع على الشعب الكوبى من إذاعة الثوار :" استعد أيها الشعب البطل ".
زحف " جيفارا " بقواته نحو سانتا ماريا ، فسقطت أمامه . ثم هافانا ، وتمكّن من محاصرة قطار مدرّع مكدّس
بالأسلحة كان معدّا لسحق الثوار . التقت القوات سانتا ماريا هافانا ، لتعم أنحاء كوبا كلها ، ولتعلن للعالم كله :" لقد
استولى الثوار على السلطة ، وسقط الديكتاتور " باتيستا" ، واحترقت أحلام أمريكا ". أصبح " جيفارا "
وزيرا للصناعة ، لكنه كان يخشى الابتعاد عن حياة الجماهير اليومية ، وكفاحها الدائب ، فقرّر أن يقضى
بينهم يوم عطلته الأسبوعية ، عاملا فى مصانع السكر . لكن أصواتا عالية ، وفى أماكن متفرّقة من المستعمرات
والبلدان الأخرى كانت تصل إلى أذنيه المرهفتين بين حين وآخر . أصوات غنية تتغنى بها شعوب أمريكا
اللاتينية التى تقاوم الاستعمار الأمريكى ، والتى تناضل من أجل الاشتراكية العلمية .
أرنستو جيفارا قادم
من الجبال إلى المدينة
والشعب ينادى باسمه
وعندهم بنادقهم وشجاعتهم
الآن للثوار قائد
وهو الذى يتبعونه
سوف يرونه عند كل نقطة حدود
يلم شمل الشعوب
فى نضالها من أجل الحرية
ويمكن أن تراه حتى فى الغابات
لأن أرنستو جيفارا
يعيش ليخوض هذه المعركة
فى كل مكان .
وكعادته دائما ، ولثقته فى خطواته النضالية ، قرّر " جيفارا " التخلّى عن منصبه كوزير للصناعة ، وعن
دوره فى قيادة الحزب الشيوعى الكوبى ، وعن رتبته كميجور ، وعن جنسيته الكوبية ، ليعود مناضلا ثوريا
يجوب الأدغال والسهول ، وينظم الثوار فى قتال مسلح ضد الاستعمار الأمريكى فى كل مناطق أمريكا اللاتينية .
ولتكن هناك أكثر من " فيتنام " أخرى . ولتكن هناك أكثر من نار حارقة للعدو ، الدماء الساخنة تغلى .
نبض الحياة يرتفع فى العالم كله ، الاستعمار المجنون يُعلن عن مقتله مرات عديدة ليوهن من عزيمة الثوار ،
لكن الضوء الساطع الذى أضاءه " جيفارا " فى قلوب الثوار فى أنحاء العالم ، كان يجعلهم يقولون فى ثقة :
" لم يمت، بل إن أمريكا تريد أن تحطّم أعصابنا ". لكن أكتوبر الحزين أعلن للثوار فى العالم كله ، لقد قتل
الأوغاد أعظم المناضلين فى عصرنا . وبعد ، إن الخطأ الذى يقع فيه بعض المناضلين عندنا هو أنهم يعيشون
بفكر لا نشتم منه رائحة الأرض والفلاحين المصريين . ورغم أن الكثيرين منهم قد قرأوا كثيرا عن " جيفارا " ،
ومناضلين آخرين ، إلاّ إنه يُعتبر ترفا ثقافيا . إن المناضل الصاد الذى نحتاجه ، هو ذلك الذى يتنازل عن
بعض ما يحلم به من ترف ذهنى ليعمل مع الفلاحين ، وفى القرى ، ويرضى بالحياة البسيطة التى يحياها
الناس فى بلادنا بدلا من الغربة الفكرية التى تُبعد المناضل عن أرض النضال الحقيقية . وفى يوم الفدائى
العالمى ، فلنسأل أنفسنا هل نحن حقيقة صورة للمناضل المصرى الأصيل الذى يجب أن يطوّر هذا المجتمع
فكريا وسياسيا واقتصاديا . تحية لـ"جيفارا" ، فقد كانت كلماته ثورية صادقة يدفئها الحب ، وليعلم هؤلاء
الذين قتلوه ، أنهم واهمون ، فإن جبال " السييرا مايسترا" ومرتفعات " بوليفيا " ، وشعوب أمريكا اللاتينية
وكل الشعوب المحبّة للسلام ، وفى كل يوم ، تردد أغنيات " جيفارا " حول الثورة ، والإنسان ، والاشتراكية .
كما أن كل نجاح لاحدى الثورات التحرّرية ، هو جزء من القضاء على الاستعمار . وانتصار الاشتراكية
هو تطوّر للإنسان . وحيث تحدث هذه الانتصارات فى أى مكان ، وفى أى وقت ، فإنها تجد نفسها دون أى
تردد تقول :" من هنا مرّ أعظم رجال العصر ، من هنا مرّ أرنستو تشى جيفارا ".
" انتهى المقال " .


No comments: